تأثير اللغة العربية في غيرها من اللغات
إن اللغة كائن حي، ويعتري هذه اللغة ما يعتري الأحياء، من غنى وفقر ومن سعة وضيق ومن انتشار أو انحسار، ومن تجمع وتفرق، ومن عزة وذلة، ومن حياة وموت. وتتأثر اللغة بحضارة الأمة، ونظمها وتقاليدها واتجاهاتها العقلية ودرجة ثقافتها وشؤونها الاجتماعية والاقتصادية... وما إلى ذلك. فكلّ تطور بحث في ناحية من هذه النواحي إلا وينعكس تأثيره في أداة التعبير ولذلك تعدّ اللغات أصدق سجل لتاريخ الشعوب.
فكلّما اتسعت حضارة أمة، نهضت لغتها وسمت أساليبها، وتعددت فيها فنون القول، ودخلت فيها ألفاظ جديدة عن طريق الوضع، والاشتقاق والاقتباس أو الاقتراض للتعبير عن المسميات والأفكار الجديدة، فتحيا هذه اللغة وتتطور عبر الزمن وتصبح أكثر مناعة وصلابة ضد أي صراع لغوي مع اللغات الأخرى. واللغة العربية أصدق مثال على ما نقول، بحيث أصبحت بعد فترة وجيزة من نزول القرآن الكريم لغة العلوم العقلية (كالطب، والكيمياء، والفلك، والطبيعة) مثلما هي لغة العلوم النقلية (كالفقه والتفسير والكلام)، بل غدت لغة العلم الأولى التي لا تضاهيها لغة في القرون الوسطى، وخلفت أثارا تشهد بعبقرية علماء العرب المسلمين على مرّ العصور والتاريخ.
تداخل اللغات:
لا أحد منّا ينكر أنّ اللغات تتداخل وتتلاقح كلما اتصلت إحداها بالأخرى بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأنّ أية لغة من اللغات في العالم كما تؤثر في غيرها، فإنها أيضا تتأثر.
وإنّه "من المتعذر أن تضل لغة بمأمن من الاحتكاك كلغة أخرى"(1). ويرى فندريس أن تطور اللغة مستمر في معزل عن كلّ تأثير خارجي، يعدّ أمرا مثاليا لا يكاد يتحقق في أية لغة، بل على العكس من ذلك، فإنّ الأثر الذي يقع على لغة ما من لغات مجاورة لها، كثيرا ما يؤدي دورا هاما في التطور اللغوي، ذلك لأنّ احتكاك اللغات ضرورة تاريخية، واحتكاكها يؤدي حتما إلى تداخلها(2).
وأهم ناحية يظهر فيها التداخل هي الناحية المتعلقة بالمفردات أين تنشط حركة التبادل بين اللغات ويكثر اقتباسها بعضها من بعض. ولهذه الظاهرة اللغوية عواملها التي يتتبعها الدارسون عبر مسيرة الصراع اللغوي بين اللغات من أجل البحث عن الأسباب التي تجعل لغة ما أكثر انتشارا من لغة أخرى ودرجة صمودها أمام غزو اللغات الأخرى لها. ومن بين هذه العوامل ذكر عبد الصبّور شاهين أن العامل الحضاري والثقافي للغة هو الأهم في التأثير والتأثر بين اللغات والعامل الثاني هو كثرة الناطقين باللغة(3).
ويمكن حصر تلك الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى التأثير والتأثر بين اللغات كالتالي:
1. الغلبة في الصراع، والانتصار في الحرب، والمقهور مولع بتقليد الغالب، وخاصة إذا كان للمنتصر حضارة وثقافة ورقي وليس للمنهزم شيء من ذلك. "فقد كانت اللاتينية قديما إحدى لغات الفرع الإيطالي من مجموعة (الهندو أوربية)، محضرة في منطقة ضيقة من إيطاليا، وأصبحت بعد انتصارها في الصراع لغة رسمية لكل من: إيطاليا، والبرتغال، وإسبانيا وفرنسا، وألبانيا"(4).
2. وكذلك الهجرة القومية المكثفة، أو الاستعمار الثقيل بقضية، سبب رئيسي من أسباب التأثير والتأثر وانتشار اللغات.
3. وتتأثر اللغات بالاحتكاك عن طريق المجاورة أو التجارة، وكذلك أثناء الحروب فالإنجليزية والفرنسية والألمانية، والبرتغالية - مثلا - تتقارض المفردات وتأثرت كلها أيضا ببعضها بسبب الحروب التي قامت في أوربا.
والحروب الصليبية نقلت إلى اللغات الأوربية، كثيرا من الألفاظ العربية قد تعدّ بالآلاف؛ وذكر بعض العلماء أن الإسبانية أخذت من العربية أكثر من أربعمائة لفظة في شؤون البحرية وحدها(5). فضلا عن أن المعاملات التجارية، قد أثرت كثيرا، ونقلت أسماء الأشياء من المنتجات الفلاحية أو الصناعية التجارية المتبادلة، وما يلزمها.
4. والملاحظ أيضا أن للعلاقات الثقافية والحضارية بين الشعوب أثر عميق في التبادل والتأثير والتأثر بين اللغات في العالم.
ونجد أحيانا لغتين متعايشتين، ولا تستطيع إحداهما التغلب على الأخرى، ويرجع ذلك إلى عراقة كلّ منهما في الثقافة والحضارة، أو لقلة الأفراد المهاجرين أو الفاتحين. فاللاتينية مثلا لم تتغلب على الإغريقية، لعراقة الأخيرة في الحضارة. والتركية (لغة الإمبراطورية العثمانية) أبان عظمتها وسطوتها، لم تستطع التغلب على أية لغة في البلاد التي خضعت للإمبراطورية، إذ ليس للتركية حضارة سابقة، فضلا عن أنهم لم يمتزجوا بأصحاب البلاد التي حكموه زمانا ليس بالقصير(6).
ونتيجة للتعايش بين اللغات يقع التأثير والتأثر بين اللغات المتمثل في افتراض الألفاظ، فيتسع محل لغة وتتطور وتزداد حيويتها، وتلك سنة اللغات حين التعايش والاحتكاك والتجاور.
ونجد اللغة العربية كغيرها من اللغات في العالم عبر التاريخ تداخلت مع اللغات الأخرى حين احتكت واتصلت بالأمم المجاورة بسبب الحروب والمعاملات التجارية والثقافية، فأثرت وتأثرت حسب قانون التجاور والصراع.
العربية لغة مؤثرة في غيرها من اللغات:
إنّ اتصال العربية باللغات الأعجمية لا بد وأن ينجر عنه تقاطع وتشابك يحمل في ثناياه آثارا عميقة، وخاصة أنّ هذا الاتصال توسع بصفة مكثفة في العصر الإسلامي، بحيث شهد المجتمع هجرات فردية وجماعية، فأخذت العربية تؤثر وتتأثر، فتأثير العربية في غيرها من اللغات كان كبيرا وخاصة في عهد الدولة العباسية أين امتد سلطان العرب الفاتحين جغرافيا من أسبانيا والبرتغال غربا إلى حدود الصين شرقا، ومن سفوح الأناضول شمالا إلى أوساط إفريقيا جنوبا(7)، فانتشرت اللغة العربية وارتفع شأنها برفعة أهلها. والذي جعل منها لغة قوية تبزّ غيرها من اللغات هو ارتباطها بالقرآن الكريم الذي نزل بها.
يضاف إلى ذلك طبيعتها التركيبية والدلالية الغنية بالأوزان وكثرة المترادفات وانسجامها الصوتي. وقد أظهر التاريخ قدرة اللغة العربية على استيعاب الأفكار الجديدة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية الغراء، وبين كفاءتها الواسعة في الترجمة من اللغات الأعجمية في العصر العباسي الأول، ولم يشك واحد من المترجمين آنذاك، قصور الفصحى عن استيعاب الأفكار الفلسفية والعلمية التي كانت لمفكري الإغريق والرومان والسريان وغيرهم(8).
ويرى بعض اللغويين المحدثين أن اللغة العربية امتازت بحيوية نفاذة متأججة بحيث لم تنازل لغة أيام الفتوحات الإسلامية إلا ظفرت بها. ظفرت في العراق باللغتين الآرامية والسريانية، وفي إيران انتصرت على اللغة الفارسية وظفرت بها، وفي الشّام باللغتين السريانية واليونانية وفي مصر باللغتين القبطية واليونانية، وفي المغرب باللغتين البربرية واللاتينية، وفي الأندلس باللغة الإسبانية، وأهل كل هذه البلدان شرقا وشمالا وغربا زايلت لغاتهم ألسنتهم وحلت مكانها العربية واتخذوها للتعبير عن مشاعرهم شعرا ونثرا وعن عقولهم وألبابهم فكرا وعلوما وسياسية(9).
لقد أشار ابن خلدون إلى هذا التأثير في "مقدمته" أين خصص فصلا عنوانه لغات أهل الأمصار قال فيه: "اعلم أنّ لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها... لأنّ الناس تبعُ للسلطان وعلى دينه فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك..."(10)
ويشير أيضا إلى تأثر اللسان العربي المضري وذلك بسبب اللحن على ألسنة العامة من العرب للاختلاط الذي وقع بين العربية وألسنة الأعاجم في الأمصار الإسلامية أثناء وبعد الفتوحات الإسلامية، وأدرك التغيرات الصوتية والتركيبية في كلام العرب الفصيح ويعبر عن ذلك بفساد اللسان المضري. وهي البداية لظهور العاميات الإقليمية في الأمصار الإسلامية، وقد عبر ابن خلدون عنها بـ"اللسان الحضري" وقال: "ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها بعض أحكامه وتغير أواخره وإن كان بقي في الدلالات على أصله وسمي لسانا حضريا في جميع أمصار الإسلام"(11).
ومن الأسباب الاجتماعية التي أدت إلى تأثر ألسنة الأعاجم في الأمصار باللغة العربية وهجرهم لألسنتهم الأصلية، هو حبهم الشديد للدين الإسلامي وإقبالهم عليه طوعا وليس قهرا، فأحبوا العرب والعربية من خلاله. وشهد التاريخ الإسلامي أن حسن معاملة الحكام المسلمين لهؤلاء الأقوام من الأعاجم أثناء وبعد الفتوحات جعلهم يدخلون في الدين الإسلامي أفواجا وأفواجا.
يضاف إلى ذلك دور الدعاة المسلمين المهم في جلبه وتحبيب الأعاجم في الإسلام وفي اللغة العربية، قال أحمد مختار في إسلام البربر: "لم يكن هؤلاء الدعاة وحدهم السبب في إقبال البربر على الإسلام، فقد كانت القدوة الحسنة والمعاملة الطيبة التي عامل بها الحكام الصالحون رعيتهم من الأسباب الهامة في تحبيب الناس في ذلك الدين الوافد وجعلهم يشعرون بالسيادة والطمأنينة والرضا في ظله"(12).
ولم يكن تأثير العربية منحصرا في الجانب النطقي فقط، بل تعداه إلى الجانب الكتابي كما يظهر ذلك في اقتباس بعض اللغات الحروف العربية للتعبير عن لغاتها الأصلية، ونجد هذا التأثير خاصة في البلاد الآسيوية والإفريقية وغيرها نحو اللغة الكردية (ولها عدة لهجات)، والأفغانية، والكشميرية، والبنجانية (ولاية بنجاب في شمالي الهند)، والسواحلية (إفريقية الشرقية) الخ. فقد ذكر رفائيل نخلة اليسوعي أن عدد اللغات التي أخذت حروف العربية هو سبع وثلاثون لغة، معتبرا أن تلك العوامل الدينية والسياسية والاقتصادية قد أفضت حتما إلى شدة تأثير العربية في تلك اللغات، وقد دخل قاموس سجل منها عدد من الكلمات العربية، بحيث لا تكاد تجد جملة طويلة في تلك الألسن لا تحوي عدة عناصر عربية(13).
تأثر اللغات الأوربية بالغة العربية:
لقد كان للعربية ابتداء من القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي تأثير كبير في اللغات الأوروبية، استمر طيلة وجودها في الطرف الجنوبي من أوربا، في الأندلس وصقلية وما حولهما من الجزر حتى آخر القرن الخامس عشر. إذا كان وجود العربية قد تقلص في تلك البلاد، فإنه قد ترك بصماته على ألسنة أهلها المتكلمين بالإسبانية أو البرتغالية أو غيرهما من اللغات المحلية حتى الآن.
وعن تأثير العربية في الإسبانية والبرتغالية، نجد الأب جان دي صوصة (ت 1842 م) قد صنف "معجم الألفاظ الإسبانية البرتغالية المشتقة من العربية" وحوى هذا المعجم حوالي ثمانية عشر ألف كلمة مشتقة من أصل عربي، في اللغة الإسبانية واليونانية(14).
لقد اهتم بعض الباحثين الأوروبيين بدراسة الكلمات العربية الدخيلة في المعجمات وتتبع تاريخ دخولها فيها، فالكاتب الفرنسي بيير جيرو أقرّ بتأثير اللغة العربية في اللغة الفرنسية وقدم قائمة من مائتين وثمانين كلمة دخلت من العربية إلى الفرنسية في عصور مختلفة من التاريخ. وعني فريق آخر بدراسة هذه الكلمات العربية الدخيلة بإظهار الوسائل والطرق التي دخلت من خلالها إلى فرنسا ولغتها مؤكدا على توثيق تلك المعلومات وإسنادها بالدليل العلمي المتوفر، وقدم قائمة حوت أكثر من ستمائة كلمة.
كما نجد أبحاثا أخرى ومقالات نشرت في هذا الصدد في غير فرنسا، ففي رومانيا مثلا نجد باحثين أكاديميين مثل نيوكولاي دوبرشان الذي قام بتتبع ودراسة الألفاظ العربية الأصل الدخيلة في اللغة الرومانية عبر التاريخ فقال في هذا المجال "دخلت عدة مئات من الألفاظ العربية اللغة الرومانية بواسطة لغات أخرى، وقد دخل معظم هذه الألفاظ - أي أكثر من 400 مفردة - إضافة إلى مئات أخرى من المشتقات منها في اللغة الرومانية وفقا لقواعد اللغة التركيبية وفي بعض الحالات ساعدت لغات بلقانية أخرى مثل البلغارية والصربية - في عملية انتقال هذه الألفاظ من العربية إلى الرومانية. ولا تزال تستخدم في اللغة الرومانية الأدبية المعاصرة ما يقارب مائة لفظة عربية الأصل بصورة عادية، بالإضافة إلى المشتقات منها، كما دخل عدد أصغر من الألفاظ بواسطة اللغات الرومانسية الإسبانية والإيطالية والفرنسية، وفي الوقت الأخير بواسطة اللغة الإنجليزية"(15).
وقد يظن البعض أنّ اللغة الإنجليزية كانت بعيدة عن تأثير العربية فيها لأن الجزر البريطانية كانت بمنأى عن موجة الفتح العربي الإسلامي لجنوب أوروبا، وحوض البحر المتوسط، ولكن الغزو العلمي العربي لم يترك مكانا في أوروبا دون أن يبلغه. وهكذا وجدنا في الإنجليزية قدرا كبيرا من الكلمات ذات الأصول العربية يصل بها بعض الباحثين إلى بضع مئات، دخلت إلى الإنجليزية مباشرة أو بالواسطة، ولكن صلة العربية بالإنجليزية بدأت متأخرة في منتصف القرن الحادي عشر الميلادي، ولمدة خمسة قرون على الأقل بعد ذلك(16).
وللألفاظ العربية طبيعية الصوت المتغلغل في الأثير، فمن لغة الأسبان والترك والروم إلى سائر اللغات الأوروبية، وبعد حيز من الزمن تعود إلينا هذه الألفاظ العربية كالطيور المهاجرة إلى مواطنها الأولى، ولكن بعد أن تغير من ألوانها، وأطواقها وأجراسها وأصواتها، وكأنما يقودها إلينا دافع الحنين إلى الوطن في البلاد العربية.
ليلى صديق
جامعة مستغانم
الهوامش:
1 - رمضان عبد التواب: فصول في فقه اللغة، مكتبة الخانجي، ط 3، القاهرة 1987، ص 258.
2 - فندريس: اللغة، ترجمة عبد الحميد الدوالي ومحمد القصاص، مكتبة أنجلو المصرية، القاهرة، ص 34.
3 - عبد الصبّور شاهين: دراسات لغوية، القباس في الفصحى والدخيل في العامية، مؤسسة الرسالة، ط 2، بيروت 1986، ص 226.
4 - د. توفيق محمد شاهين: علم اللغة العام، أم القرى للطباعة والنشر، 1980، ص 129 - 131.
5 - المرجع نفسه، ص 131.
6 - نفسه، 131.
7 - سعيد أحمد بيومي: أم اللغات، مكتبة الآداب، القاهرة، ص 36.
8 - رمضان عبد التواب: بحوث ومقالات في اللغة، ط 3، القاهرة 1995، ص 171.
9 - سعيد أحمد بيومي: أم اللّغات، ص 36.
10 - ابن خلدون: المقدمة، دار القلم، ط 9، بيروت 1989، ص 379.
11 - نفسه، ص 379.
12- أحمد مختار عمر: تاريخ اللغة العربية في مصر والمغرب، عالم الكتب، القاهرة، ص 246.
13 - رفائيل نخلة اليسوعي: غرائب اللغة العربية، بيروت 1960، ص 124 - 126.
14- سعيد أحمد بيومي: أم اللغات، ص 164 - 379.
15- د. نيكولاي دوبرشان: تطور دلالات الألفاظ العربية الأصل في اللغة الرومانية، المجلة العربية للثقافة، تونس، العدد 28، مارس 1995، ص 171.
16 - عبد الصبور شاهين: دراسات لغوية، مؤسسة الرسالة، ص 229 - 230.
http://www.almahdara.com/ar/vb7/showthread.php?t=1429