تابع فضائل وميزات لغة القرآن

الأستاذ محمد حامد 7:05 م


فضائل وميزات لغة القرآن
الميزة الرابعة: الإيجاز:
يحسن بعد الكلام عن سَعَة المفردات والترادف أن نتحدَّث عن الإيجاز في اللغة العربية؛ لئلاَّ يتوهمنَّ مُتَوهِّمٌ أنَّ هذا الغِنَى في المفردات والمترادفات هو مجرَّد كمٌّ يُحشَى به الكلام دون حاجةٍ إليه، وكانوا يقولون: البلاغة الإيجاز.
وقضية الإيجاز واسعة متشعِّبة جدًّا؛ لذا سنقسمها أقسامًا؛ ليسهل تناوُل كلِّ قسمٍ على حِدَةٍ مع شيءٍ من الإيجاز، وإلا فالموضوع يحتاج إلى رسائل جامعيَّة لتوفِّيه حقَّه؛ لكن حسبنا الإشارة مع المقارنة باللغات الأخرى ليتَّضِح الفارق.

بدايةً نذكر القاعدة الجليلة التي ذكَرَها ابن مالك في ألفيَّته، هذه القاعدة المطَّردة في اللغة العربية حيث يقول:
وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ ...
................
ونستطيع أن نعرف الإيجاز المقصود في بحثِنا هنا بأنه: "ما يستغني عن زوائد الكلام، ويحتفظ بالمعنى المُراد".
وهذه القاعدة تبيِّن لنا بجلاءٍ إلى أيِّ حدٍّ هذه اللغة رقيقة وحسَّاسة، لا تتحمَّل الزيادات غير المُفِيدة ولا تقبل حشوًا، فالحرف في اللغة العربيَّة يُغيِّر المعنى.
وسنقسم الإيجاز إلى ثلاثة أقسام:
1 - إيجاز في الحروف.
2 - إيجاز في الكلمات.
3 - إيجاز في التراكيب والجُمَل.
أولاً: في الحروف:
أ - تُكتَب الحركات في العربية فوق الحرف أو تحته، فلا تأخذ حيِّزًا في الكتابة، بينما في اللغات الأجنبية تأخذ حجمًا يُساوِي حجم الحرف أو يَزِيد عليه، وقد نحتاج في اللغة الأجنبية إلى حرفين مقابل حرف واحد في العربية لأداء صوت مُعَيَّن؛ كالخاء (KH) مثلاً، ولا نكتب من الحروف العربية إلا ما نحتاج إليه.
ب - وفي العربيَّة إشارات وعلامات تُعَزِّز هذا الإيجاز؛ منها: إشارة نُسمِّيها (الشدة)، نضعها فوق الحرف لندلَّ على أنَّ الحرف مكرَّر أو مشدَّد؛ أي: إنَّه في النطق حرفان، وبذلك نستَغنِي عن كتابته مكرَّرًا، في حين أنَّ الحرف المكرَّر في النُّطق في اللغة الأجنبية مكرَّر أيضًا في الكتابة على نحو (flapper) و(recommendation)، ونحن في العربيَّة قد نستَغنِي كذلك بالإدْغام عن كتابة حروف بكاملها، وقد نلجأ إلى حذف حروف، فنقول ونكتب: (عَمَّ) عِوَضًا عن (عن ما)، و(مِمَّ) عِوَضًا عن (من ما)، و(بِمَ) عِوَضًا عن (بما)، ومثلها (لِمَ) عِوَضًا عن (لِما).
ج - أداة التعريف التي نستَعمِلها هي (أل)، وتكتب متَّصِلة بالكلمة، والاتِّصال في الكتابة أسهل وأوْفر وقتًا، أمَّا التنكير فيكون بعدم وجود (أل)، وفيه مزيد اختصار، فاللغة العربيَّة تستَثمِر انعِدام الأداة كما تستَثمِر وجودها.
ثانيًا: الإيجاز في الكلمات:
أ - ليس في العربية أفعالٌ مُساعِدة نتوسَّل بها لإقامة المعاني، فنقول: (أنا سعيد، وهو يكتب) مباشرة، والفعل قد يستَتِر فاعله فلا يُكتَب، وقد يتَّصِل بالفعل نفسه فيكون ضميرًا.
ب - الحرف الواحد في بعض الأحيان يُشكِّل جُملةً واحدةً، نفهَم منها الفعل والفاعل والمفعول؛ مثال ذلك قولنا: (فِ)، فإنَّ هذا الحرف إنما هو جُملة، فيها أمرٌ مُوجَّه للمُخاطَب وهو الفاعل هنا، ليفعل هذا العمل وهو الوفاء.
ج - الحركات أيضًا هي نوعٌ من أنواع الإيجاز؛ إذ بالحركة نستَطِيع التفريق بين الكلمات المختلفة؛ كـ"فرَح" الاسم، و"فَرِحَ" الفعل، وبين نوعين من أنواع الاسم؛ كـ"فرِح" صيغة المبالغة، و"فَرَح" المصدر، وبين فعلٍ معلوم الفاعل "كَتَب" وآخَر مجهول الفاعل "كُتِب"، وإذا ترجمنا هذه الكلمات إلى أيَّة لغةٍ من لغات العالَم سنجد أنَّنا نحتاج إلى أكثر من كلمةٍ لا كلمة واحدة، أو إلى كلمةٍ وبها لواحق أو سوابق لتُعطِي نفس المعنى الذي أفادَتْه الكلمة العربية الواحدة التي لا تحتاج إضافة كلمات
فمثلاً سورة (الفاتحة) المؤلَّفة في القرآن من 31 كلمة استغرقت ترجمتها إلى الإنكليزية 70 كلمة.
والنفي أسلوبٌ في العربية يدلُّ على الإيجاز:
العربية: (لم أقابله)، الإنكليزية: (I did not meet him)
الفرنسية: (Je ne l’ai pas rencontré)
الميزة الخامسة: الإعراب ودلالته على المعنى:
اللغات قسمان: مبنيَّة ومُعربة، واللغات السامية كلها معربة، فلم تنفرد اللغة العربية بذلك، وفي بعض اللغات السامية آثارٌ من الإعراب مثل اللغة الأمهرية، وإن كان بينها وبين الإعراب في العربية فرق غير يسير.
ولا شكَّ أن في الإعراب شيئًا من الصعوبة، فيحتاج المتكلِّم إلى معرفة حالات الإعراب، مثل:
رأيت خالدًا Khalid I saw
حضر خالدٌ Khalid came
ذهبتُ مع خالد I went with Khalid
كذلك في اللغة العربية نجد الإعراب يؤدِّي ما لا تُؤدِّيه اللغات المبنيَّة في دقَّة التعبير والإيجاز وتنوُّع المعاني بأقلِّ قدرٍ من الكلمات.
فما هو الإعراب؟
الإعراب هو: الإبانة عن المعاني بالألفاظ؛ فمثلاً عندما نقول: (يحترمُ أحمدُ أباه)، و(شكَر سعيدًا أبوه)، علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول، ولو كان الكلام شرجًا واحِدًا لاستبهم أحدهما من صاحبه.
والإعراب موجودٌ في بعض اللغات؛ مثل اللاتينيَّة؛ لكنَّه لا يُدانِي أهميَّة الإعراب في العربيَّة، ثم إنَّ اللاتينيَّة قد اندَثرت وصارت لغةً من التاريخ لا واقِع لها، بل كان الإعراب في اللاتينية من أسباب صعوبتها، أمَّا هو في العربية فله عدَّة ميزات وفوائد نذكُر منها على سبيل الإيجاز والاختصار:
1 - الإعراب دليل التخفيف والإبانة عن المعاني بسهولة ويُسر.
2 - الإعراب وسيلةٌ من وسائل الإبداع والبلاغة؛ فبه نستَطِيع التقديم والتأخير اهتمامًا بالمتقدِّم وإبرازًا له، ولا يختلُّ المعنى أو يلتَبِس طالما أنَّ هذا التقديم خاضِع لقواعد النحو.
3 - الإعراب هو ضربٌ من ضروب الإيجاز في اللغة؛ لأنَّنا بالحركات نكتَسِب معاني جديدة دون أن نضطرَّ لزيادة حجم الكلمة أو رفدها بمقاطع أخرى أو بأفعال مساعدة.
4 - الإعراب يُتِيح للعربيَّة قدرةً هائلة في التعبير عن المعاني والتفنُّن في الأساليب، وتجعلها أكثر مرونةً وتصرُّفًا في بناء التراكيب.
5 - الإبانة عن المعاني، وكثيرٌ من الجُمَل في العربية لا يبين معناها إلا بالإعراب.
كيف أنت ومحمدٌ؟
كيف أنت ومحمدًا؟
فبِرَفْع محمد معناها السؤال عن الحال أو الصِّحَّة، وتكون الإجابة مثلاً: أنا ومحمد بخير، أمَّا بالنصب فالسؤال عن العلاقة، وتكون الإجابة: إنَّ علاقتنا جيدة.
ومثال آخر:
كم رجلاًَ عندك قال الحق؟
كم رجلٍ عندك قال الحق!
كم رجلٌ عندك حق؟
الأولى للسؤال، والثانية للإخبار بالكثرة، والثالثة تعني: كم قال رجل معيَّن الحقَّ.
ويبيِّن ابن فارس هذه الخاصيَّة الخصيصة في لغة العرب فيقول: "إنَّ من العلوم الجليلة التي اختصَّت بها العرب الإعرابَ الذي هو الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ... ولولاه ما ميز فاعلٌ من مفعول، ولا مضاف من منصوب، ولا تعجُّب من استفهام، ولا صدر من مصدر، ولا نعت من توكيد"؛ "الصاحبي" ص76.
وتقول: (كم رجلاً رأيت؟) في الاستخبار، و(كم رجلٍ رأيت)، في الخبر يُراد به التكثير؛ "الصاحبي" ص310.
الميزة السادسة: الأصوات ودلالتها على المعاني:
عرفنا فيما سبَق أنَّ الإعراب يدلُّ على المعاني بقرينة الحركة الإعرابيَّة، وما تدلُّ عليه هذه الحركة وما تفيده، أمَّا الآن فسَنَتَحَدَّث عن أصوات بعض كلمات اللغة العربية التي تدلُّ على معناها بمجرَّد سماع صوت الكلمة، وسنَرَى أنَّ بعض الكلمات قد يُفهَم معناها العام أو معناها بدقَّة من خلال أصوات المتكلم.
ويقول ابن خلدون: "الملكات الحاصِلة للعرب أحسن الملكات وأوْضَحها إبانةً عن المقاصد لدلالة غير الكلمات على كثيرٍ من المعاني؛ مثل الحركات التي تُعيِّن الفاعل من المفعول والمجرور - أي: المُضاف - ومثل الحروف التي تُغضِي بالأفعال إلى الذوات من غير تكلُّف ألفاظ أخرى... ولا يوجد ذلك إلا في لغة العرب، وأمَّا غيرها من اللغات فكلُّ معنى أو حال لا بُدَّ له من ألفاظ تخصُّه بالدلالة؛ ولذلك نجد كلام العجم في مخاطبتهم أطول ممَّا تقدِّره بكلام العرب...".
الميزة السادسة: الفصاحة:
الفصاحة في اللغة: خلوُّ الشيء ممَّا يَشُوبه، وهي الظهور والبيان.
ويقول ابن خلدون: "الملكات الحاصلة للعرب أحسَن الملكات وأوْضحها إبانةً عن المقاصد لدلالةِ غير الكلمات على كثيرٍ من المعاني؛ مثل: الحركات التي تُعَيِّن الفاعل من المفعول والمجرور - أي: المُضاف - ومثل الحروف التي تُغضِي بالأفعال إلى الذوات من غير تكلُّف ألفاظٍ أخرى... ولا يوجد ذلك إلا في لغة العرب، وأمَّا غيرها من اللغات فكلُّ معنى أو حال لا بُدَّ له من ألفاظٍ تخصُّه بالدلالة؛ ولذلك نجد كلام العجم في مخاطبتهم أطول ممَّا تقدِّره بكلام العرب...".
يقول الفارابي في "ديوان الأدب": "هذا اللسان كلامُ أهل الجنة، وهو المنَزَّه من بين الألسنة من كلِّ نقيصة، والمعلى من كلِّ خسيسة، والمهذب ممَّا يُستَهجَن أو يُستَشنَع، فبنى مباني بايَن بها جميع اللغات من إعرابٍ أوجَدَه الله له، وتأليف بين حركة وسكون حلاَّه به، فلم يجمع بين ساكنَيْن، أو متحرِّكَيْن متضادَّيْن، ولم يلاقِ بين حرفَيْن لا يأتلفان، ولا يعذب النطق بهما أو يشنع ذلك منهما في جرس النغمة وحس السمع، كالغين مع الحاء، والقاف مع الكاف، والحرف المطبق مع غير المطبق؛ مثل: تاء الافتِعال، والصاد مع الضاد في أخواتٍ لهما، والواو الساكنة مع الكسرة قبلها، والياء الساكنة مع الضمة قبلها، في خلال كثيرة من هذا الشكل لا تُحصَى"؛ "المزهر في علوم اللغة وأنواعها"؛ للسيوطي: 1/ 272.
الميزة السابعة: الثبات الحر:
العربيَّة من اللغات القلائل الثابتة الأصول، المَتِينة البنيان، الممتدَّة العمر، يفهَم الآخِر فيها ما كتَب الأوَّل، وتمخر نصوصها عبر العصور والقرون، ويَتواصَل أبناؤها عبر الزمان والمكان، فما قاله امرؤ القيس، والنابغة، وعنترة في أقدم عصورها، حاضِر ماثل اليوم يتغنَّى به الشُّعَراء والكُتَّاب، بل يتعلَّمه التلاميذ والطلاَّب، ويَسِير في الناس مسير الأمثال.
على حين لا يفهم الإنجليزيُّ اليومَ ما كتَبَه شكسبير وأمثالُه قبلَ بضع مِئات من السنين! فأين من أين؟ بل أين من لا أين؟!
يقول د. حسين نصار: "إنَّ أكبر تَحَدٍّ واجهَتْه العربيَّة كان عندما أخرَجَها الإسلام من جاهليَّة غنيَّة كل الغِنَى في الإبداع الأدبي، فقيرة كل الفقر إلى حدِّ الإملاق في الإنتاج العلمي، ثُم ألقى بها في القرنين الثاني والثالث الهجريين في بحر زاخر من الحضارات والعلوم، والفلسفات والفنون، وكل صنوف المعرفة التي ابتَكرَتْها الأُمَم المُتاخِمة للجزيرة العربية؛ كالفرس والروم، والسريان والمصريين، والأمم البعيدة عنها؛ كالهنود والصينيين، والأتراك والبربر، وشعوب إسبانيا، ولكنَّ العربيَّة صمدت لهذا التحدِّي، بفضل ما بثَّه الإسلام في العرب من رغبةٍ في المعرفة، وسعيٍ في طلبها، وطموح وعزْم، وتخطيط وتنفيذ، وتعاون مع غير العرب من أبناء الشعوب العارِفَة باللغات الأجنبية واللغة العربية، فلمْ يَمضِ إلا وقتٌ غير طويلٍ حتى نقلت العربية كلَّ ما وجدت عند هذه الأُمَم إليها، فاستَطاع أبناؤها بعدُ أن يتمثَّلوها فهمًا، ولم يمضِ كبيرُ وقتٍ حتى شارَكوا في الإنتاج والابتِكار، فصار ما كتَبَه هؤلاء المفكِّرون والعُلَماء منذ القرن الثالث نبراسًا استَضاءت به شعوب العالم القديم، لا يستَطِيع أن يُنكِر ذلك إلا مُنكِرٌ لعقله، مُنكِرٌ لشمس النهار الصحو، مُنكِرٌ لتاريخ الإنسان وتطوُّره الحضاري"؛ من كلمته التي ألقاها بمناسبة حصوله على جائزة الملك فيصل العالمية، "مجلة تراثيات"، العدد الخامس ذو الحجة 1425 - يناير 2005.
ومع هذا التحدِّي الكبير فلم تنخَرِط اللغة في غيرها من اللغات؛ بل ظلَّت محافِظة على هُويَّتها، متماسِكة لا تذوب في غيرها من اللغات، ويذوب غيرها فيها.
الثَّبات:
تميَّزت اللغةُ العربية بالثبات، وهذا الثبات لا يَعنِي الجمود وعدم التطوُّر، فهي متطوِّرة في إطارٍ ثابت، طيِّعة صالحة لكلِّ زمان ومكان، لكلِّ عصر ومصر، من خلال أُطُر وقواعد تحفظ عليها رونَقَها وأصولها؛ لذلك لم يطلها ما طال اللغات الأخرى من تطوُّر أدَّى في النهاية إلى اندِثارها، أو تطوُّرِها تطوُّرًا نشأ عنه مراحل من اللغة لا يفهَم اللاحق منها السابق، فقد اندَثَرت اللغة اللاتينية ونشأ عنها اللغات الأوربية المتعدِّدة، وتطوَّرت اللغة الإنجليزية فصار مَن يدرس الإنجليزية الحديثة لا يفهَم الإنجليزيَّة الوسيطة، فاحتاج دارِس الإنجليزيَّة إلى ترجمة روايات شكسبير ليَفهَمها، أمَّا العرب فهم يقرؤون ما كُتِبَ من خمسة عشر قرنًا ويفهمونه، بل يشعرون به ويعيشون مشاعر قائِلِه الأوَّل.
سبب الثبات:
لنعرف لماذا لَم تتبدَّل اللغة العربيَّة وتَبَدَّل غيرُها، يجب أن نعرفَ لماذا تغيَّر غيرُها؟
أثبتَتْ إحدى الجامعات البريطانية أنَّ كلَّ اللغات تَحوِي صفات ذاتيَّة فيها، تؤدِّي إلى تطوُّرها وتغيُّرها عبر الأزمان؛ لأنهم يرَوْن لكلِّ لغةٍ عمرًا كعمر الإنسان من الطفولة إلى الكهولة ثم الموت، وهم أنفسهم أثبَتُوا أنَّ اللغة العربية خالية من هذه الأسباب؛ لأنها تحوي سِمات تجعَلها تُجَدِّد نفسَها من داخلها لتُناسِب العصر والتجْديد.
ونحن نقول هذه المميزات هي: الاشتِقاق والترادُف والتعريب... وغيرها من الآليَّات التي تستخدمها اللغة العربية لتُجدِّد خَلاياها حتى تُناسِب العصر والمُحدَثات، مع احتفاظها بأُصُولها وألفاظها وقواعدها، فهي لُغة الأدب والعلم والحضارة.
مع هذا الثبات فهي لغة حرَّة مَرِنَهٌ، يقول الأستاذ العقاد - رحمه الله - في مقدمة كتاب "الصحاح"؛ للأستاذ العطار: "ولقد قيل كثيرًا: إنَّ اللغة العربية بقيت لأنها لغة القرآن، وهو قول صحيح لا ريب فيه، ولكن القرآن الكريم إنما أبقى اللغة لأنَّ الإسلام دين الإنسانية قاطبة، وليس بالدين المقصور على شعب أو قبيل، وقد ماتت العبرية وهي لغة دينية أو لغة كتاب يَدِين به قومه، ولم تمت العبرية إلا لأنها فقدت المرونة التي تجعلها لغة إنسانية، وتُخرِجها من حظيرة العصبيَّة الضيِّقة بحيث وضعها أبناؤها منذ قرون".
الميزة الثامنة: علم العَرُوض:
وهو العلم الذي به تُعرَف أوزان الشعر العربي.
يقول ابن فارس: "ثم للعرب العَرُوض الذي هو ميزان الشعر، وبه يُعرَف صحيحه من سقيمه"؛ انظر: "الصاحبي" ص77.
وقد أشار غيرُ واحد من المستشرقين إلى اختِصاص العربية بعلم العَرُوض، يقول العلامة المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون في بحثٍ له بعنوان "مقام الثقافة العربية بالنسبة إلى المدينة العالمية": "وأمَّا في علوم اللغة فإنَّ الفكر السامي لَم يَصِل إلى علم العروض إلا عند العرب"؛ "فقه اللغة"؛ للدكتور علي عبدالواحد وافي، ص248.
وقد أفاض الأستاذ العقاد في بحث "الخاصية الموسيقيَّة للغة العربية" في كتابه "اللغة الشاعرة"، ويظهر من عنوان الكتاب ومن شرح العقاد له، أنه يَعنِي باللغة الشاعرة اللغة التي بُنِيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية؛ فهي في جملتها فنٌّ منظوم مُنَسَّق الأوزان والأصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلامٍ تألَّفت منه ولو لم يكن من كلام الشعراء.
وهذه الخاصية في اللغة العربيَّة ظاهرةٌ من ترْكيب حُرُوفها على حِدَةٍ، إلى تركيب مفرداتها على حِدَةٍ، إلى تركيب قواعدها وعباراتها "إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها في بنية القصيد"، "اللغة الشاعرة" ص11.

شارك الموضوع

مواضيع ذات صلة