تحتَلُّ العربيَّة المركز السادس من حيث عدد المتكلِّمين بها، وهي اللغة الوحيدة التي دامَتْ لأكثر من خمسة عشر قرنًا من الزمان، فكلُّ اللغات القديمة قد انقرَضَتْ إلا هي، واللغة العربيَّة قد تجمَّع فيها من الميزات والخصائص ما لم يُوجَد مُجتَمِعًا في لغةٍ غيرها، ومع كلِّ هذه الخصائص والميزات إلا أنَّ كثيرًا من أهلها جهِلُوا مكانتها وقيمتها، ورمَوْها بالتُّهَم الباطِلَة بأقوالهم، وبالتصرُّفات المشينة التي تُسِيء إلى لُغتهم، ولم يقدِّر أكثرُ العرب قيمة لغتهم ومكانتها، ولم يحفَظُوها ويراعوا حقَّها عليهم، وإلا لكان من الواجب عليهم تعلُّمها وتعليمها، والالتِزام بقواعدها، فهي خيرٌ وعزَّة لهم في الدنيا، وأجرٌ وثواب عظيم لهم يوم القيامة، فكم عَزَّ أقوامٌ بعزِّ لغات! ووَجَب على كلِّ غَيُورٍ على أمَّته، محبٍّ لدينه، أن يعملَ على إحياء اللغة العربية في المنتديات والتجمُّعات الثقافية والعلميَّة، ودُور العبادة، وقاعات الدرس، وأن يُذكِّر بفضلها ومكانتها وأهميَّتها بالنسبة لنا كمسلِمين، فهي من الدِّين، وبالنسبة لنا كعرب.
الفصل الأول: فضل العربية ومكانتها في الإسلام:
قد كرَّم الله - تعالى - هذه اللغة العربية؛ إذ أنزل كتابه الكريم بها على رجلٍ من أهلها - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكرَّمها إذ حَفظها بحفظِ ذلك الكتاب العظيم، وهذا التكريم قطعيُّ الدلالة على أنَّها خيرُ اللغات، وما انحِسار ظِلِّها في هذا الزمن وضيق انتشارها، إلا دليلٌ على ضعف أهلها في تعلُّمها وتعليمها، وتلك حقيقةٌ لا سبيل إلى جحدها أو المُمارَاة فيها، وإلا فإنَّ الإسلام الذي حكَم العالم قرونًا مَدِيدة قد نُحِّيَ هو الآخَر في هذا العَصْر عن موقع القيادة والسلطان، أَفَيَحْمِلُ الإسلامُ - وهو دينُ الله الخاتم، وكلمته العليا – وِزْر انتكاسِنا وارتكاسنا؟!
وغير ذلك من الشعائر؛ مثل: قراءة القرآن، وذِكْر الله - جلَّ وعلا - كلُّ هذا يحتاج فيه إلى تعلُّم شيءٍ من العربية؛ ليصحَّ إسلام العبد، وتصحَّ عباداته.
قال أبو إسحاق الشيرازي في "صفة المفتي": "ويَعرِف من اللغة والنحو ما يَعرِف به مراد الله ومراد رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في خطابهما"، "اللُّمع في أصول الفقه" ص127.
والآن سنُلقِي الضوء على بعض مميِّزات اللغة العربية، والأدلَّة التي تُسوِّغ لنا أن نحكم لها بالأفضليَّة بين لغات العالم حديثها وقديمها.
دائمًا ما نجد المتحدِّث عن اللغة العربية، المُشِيد بفضلها ومكانتها بين اللغات - نجد دليله على هذا الفضل وتلك المكانة أنَّ اللغة العربية هي لغة القرآن، وهو خيرُ كلامٍ؛ إذ هو كلام ربِّ العالمين إلى الناس أجمعين، فلماذا نزَل القرآن عربيًّا؟
وهل تتميَّز اللغة العربية بميزات اختصَّت بها عمَّا دونها من اللغات؟
وإذا افترضنا وجود هذه الميزات، فهل يُسوِّغُ لنا ذلك أن نزعم أنَّ اللغة العربية هي أفضل اللغات؟
وإذا افتَرضنا أنها خير اللغات، فهل نزَل القرآن عربيًّا لأنها خير اللغات، أم أنها صارت كذلك لنُزُول القرآن عربيًّا؟
ولماذا كانت اللغة التي يجب على المسلمين تعلُّم بعضها ليقيموا بها فرائضهم هي العربية، ولا يجوز القيام بهذه الفرائض بغيرها؟
ولماذا كانت الأمَّة التي تحمل آخر رسالة إلى أهل الأرض عربية؟
هل في جنس العرب ما ليس في سِواهم، كما في لغتهم ما ليس في سواها؟
ونستَطِيع أن نقول مطمئنِّين: إنَّه لم يكن اختيارُ الله - عزَّ وجلَّ - لآخِر رسله وخاتم كتبه عربيًّا إلا لحكمةٍ بالغة، فما يكن من فعل الله واختياره فهو الحكمة، أي حكمة.
ونحن نُحاوِل البحثَ عن هذه الحكمة في كون القرآن عربيًّا لا بغيرها من اللغات، وكون الرسالة العالمية الخاتمة إلى أهل الأرض يحملها العرب لا غيرهم.
يرى البعض أنَّ مثل هذا الحكم هو زعمٌ تزعمه كلُّ أمَّة للغتها، وأنَّ العرب تبعٌ على هذا المنوال في زعمٍ لا دليلَ عليه، لكنَّ الباحثَ المتأملَ المتجرِّد يرى الأدلَّة على أفضليَّة اللغة ظاهرةً للعيان، مؤكدة للباحث الهمام، وسنأتي عليها تفصيلاً.
ويرى البعض الآخَر أنَّ تفضيلَ بعضِ اللغات على بعضٍ أمرٌ غيرُ واقِع، فاللغات متشابهة متساوية، إنما تعلو وتَفضل إذا خدَمَها أهلُها ونشَرُوها بثقافتهم وقوَّتهم، وهذا صحيحٌ؛ فالأمم القويَّة تنتَشِر لغتها بين الأممِ الضعيفة، أو بتعبيرٍ أصح: الأُمَم المُستَضعَفة، وهذا قد قرَّرَه مؤسِّس علم الاجتماع ابن خلدون، فالأُمَم الضعيفة مغرَمة بتعلُّم لغة الأمَّة القويَّة الغالبة، لكنَّ هذا لا يَنفِي أنَّ اللغات تَتفاضَل فيما بينها في أصلها؛ لأسباب وخصائص ذاتية تتميَّز بها اللغة، دون النظر إلى حال المتكلِّمين بها.
أولاً: الدليل العقلي:
القرآن هو رسالة سماويَّة لأمَّة عالميَّة؛ فمن المنتظر في هذه الرسالة أن تحمل أسمى المعاني في أوجز الكلمات وأوضح وأدق المعاني، وأن يحتاج غيرها إليها ولا تحتاج إلى غيرها، وأن تكون صالحة لكلِّ زمان ومكان؛ لأنَّ هذه الرسالة أبديَّة باقية إلى أن يرثَ الله الأرض ومَن عليها، أو بتعبير أدق: إلى أن تُمْحَى من الصدور والسطور.
هذه ميزات لا تتوفَّر في أيَّة لغةٍ من لغات العالم، هذه حقيقة علميَّة أثبتَتْها الأُمَم المتَّحِدة؛ حيث أصدرتْ بيانًا تُبيِّن فيه عدد اللغات التي ماتت خلال القرْن العشرين، وتوقَّعت اللغات التي ستَموت في القرن الحادي والعشرين، وكان من بين هذه اللغات المتوقَّع موتها اللغة العربية، وسبحان الله! قيَّض الله إحدى الجامعات البريطانية لتُثبِت خطأ هذا التوقُّع؛ حيث أثبتَتْ هذه الجامعة أنَّ اللغة العربية لغة خالدة؛ بل حدَّدت هذه الجامعة للُّغات الكبرى في العالَم عمرًا محددًا بعدَه تنقرض هذه اللغات، فكان من بينها اللغة الإنجليزية التي ستموت في خلال قرن ونصف من الزمان، واللغة الفرنسية التي ستموت خلال ثلاث أرباع قرن.
لذلك وجدنا كثيرًا من الدُّوَل تُقَيِّد تاريخها باللغة العربية ومنها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا؛ وهذا يدلُّ على ثَبات هذه اللغة وتماسُكها وتفكُّك اللغات الأخرى؛ فقد أثبتَتْ نفس الجامعة أنَّ جميعَ اللغات تَحوِي أسباب فنائها إلا اللغة العربية؛ فإنها خالية من كلِّ الآفات التي تؤدِّي إلى اندِثار اللغات.
الدليل الواقعي العلمي:
سنستَعرِض الآن مميِّزات اللغة العربية مع مقارنة هذه الميزات مع بعض اللغات العالمية المنتَشِرة على مستوى العالم، ونرى أي اللغتين مستحق للتفضيل على الأخرى.
الميزة الأولي: التخفيف:
ونقصد هنا التخفيف في الحروف، فاللغة العربية تغلب عليها الأصول الثلاثيَّة ثم الرباعية فالخماسية، أمَّا اللغات الأخرى فلا نجد هذا الأمر فيها، فالكلمات الثلاثية قليلة في اللغات الأخرى بالمقارنة باللغة العربية.
يقول ابن فارس: "وممَّا اختصَّت بِهِ لغةُ العرب قلبهم الحروف عن جهاتها؛ ليكون الثاني أخفَّ من الأوَّل، نحو قولهم: (ميعاد) ولم يقولوا: (مِوْعاد)، وهما من (الوعد)، إلاَّ أنَّ اللفظ الثاني أخفُّ، ومن ذلك تركُهم الجمعَ بين السَّاكنين، وقد تجتمع فِي لغة العجم ثلاث سواكن".
يقول ابن جني: "إنَّ الأصول ثلاثة: ثلاثي ورباعي وخماسي، فأكثرها استعمالاً وأعدلها تركيبا الثلاثيُّ؛ وذلك لأنَّه حرف يُبتَدأ به، وحرف يُحشَى به، وحرف يُوقَف عليه".
ثم يقول مُبيِّنًا الحكمة من غلبة الثلاثي: "فتمكُّن الثلاثي إنما هو لقلَّة حروفه"؛ "الخصائص" 1/ 65.
الميزة الثانية: سعة المفردات:
لا توجد لغةٌ على وجه الأرض يحوي قاموسها ما يَحوِيه المعجم العربي من مفردات، وهذه حقيقة واقعة شهد بها المستشرقون، كما شهد بها المسلمون، فاللغة العربية هي لغة الغِنَى والثَّراء.
قال الإمام الشافعي: "لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا"؛ "الرسالة"؛ للإمام الشافعي: 1/ 45 - 46.
فلا يُمكِن لأحدٍ إحصاءُ جميع الألفاظ العربية إلا نبي، مهما بلَغ في اللغة شأوًا بعيدًا، وفي اللغة العربية كثيرٌ من الأسماء لمسمًّى واحد؛ كأسماء الأسد والحية والعسل، وممَّن ألف في المترادف العلامة مجد الدين الفيروزآبادي صاحب "القاموس"، ألَّف فيه كتابًا سماه: "الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف"، وأفرد خلقٌ من الأئمَّة كتبًا في أسماء أشياء مخصوصة، فألَّف ابن خالويه كتابًا في "أسماء الأسد"، وكتابًا في "أسماء الحية"، ذكر أمثلة من ذلك "العسل" له ثمانون اسمًا، أورَدَها صاحب "القاموس" في كتابه الذي سمَّاه: "ترقيق الأسل لتصفيق العسل".
يقول ابن فارس: "وممَّا لا يُمكِن نقله البتَّة أوصاف السيف والأسد والرمح وغير ذلك من الأسماء المترادفة، ومعروفٌ أنَّ العجم لا تَعرِف للأسد أسماء غير واحد، فأمَّا نحن فنخرج له خمسين ومائة اسم" ؛"الصاحبي" ص21.
ويقول أيضًا: "وحدثني أحمد بن محمد بن بندار قال: سمعت أبا عبدالله بن خالويه الهمذاني يقول: جمعت للأسد خمسمائة اسم، وللحية مائتين"؛ نفس المصدر.
وهذا الذي يُصرِّح به ابن فارس يُقرِّره علماء اللغة المُعاصِرون من الشرق والغرب؛ إذ يذكر الدكتور علي عبدالواحد وافي - وكان عضوًا بالمجمع اللغوي بالقاهرة - أنَّ الأستاذ دو هامر De Hammer جمَع المفردات العربية المتَّصِلة بالجمل وشؤونه، فوصَلَتْ إلى أكثر من خمسة آلاف وستمائة وأربع وأربعين".
ويقرِّر الدكتور وافي نفسُه أنَّ من أهمِّ ما تَمتاز به العربيَّة أنها أوسع أخواتها السامية ثروةً في أصول الكلمات والمفردات؛ فهي تشتَمِل على جميع الأصول التي تشتَمِل عليها أخواتها السامية أو على معظمها، وتزيد عليها بأصولٍ كثيرة احتَفظَتْ بها من اللسان السامي الأول، وأنَّه تجمع فيها من المفردات في مختلف أنواع الكلمة؛ اسمها وفعلها وحرفها، ومن المترادفات؛ في الأسماء والصفات والأفعال... ما لم يجتمع مثله للغة سامية أخرى؛ بل ما يندر وجود مثله في لُغة من لغات العالم"؛ "فقه اللغة" ص131.
ويقول المستشرق الألماني نولدكه: "إنَّه لا بُدَّ أن يزدادَ تعجُّب المرء من وفرة مفردات اللغة العربيَّة، عندما يعرِف أنَّ علاقات المعيشة لدى العرب بسيطة جدًّا؛ ولكنَّهم في داخل هذه الدائرة يرمزون للفرق الدقيق في المعنى بكلمة خاصَّة... والعربية الكلاسيكية ليست غنيَّة فقط بالمفردات؛ ولكنَّها غنيَّة أيضًا بالصِّيَغ النحوية)؛ نقلاً عن "اللغة العربية"؛ لنذير حمدان، ص133.
وعدد الألفاظ المُستَعمَلة من اللغة العربية خمسة ملايين وتسعة وتسعون ألفًا وأربعمائة لفظ، من جملة ستَّة ملايين وستمائة وتسعين ألفًا وأربعمائة لفظ، بينما نجد غيرها من اللغات الأوربية لا يبلغ عدد مفرداتها معشار ما بلغتْه مفردات العربية؛ "مجلة الفيصل" العدد 255/ رمضان 1418 هـ، "اللغة العربية بعض خصائصها، شهادات أجنبيَّة بأهميَّتها"؛ محمد نعمان الدين الندوي، الصفحة: 70.
الميزة الثالثة: الترادُف:
وهذه ميزة مُترتِّبة على سابقتها ونتيجة لها، فما هو الترادف؟
الترادف لغة: التتابُع.
الترادف اصطِلاحًا: دلالة عدد من الكلمات المختلفة على معنى واحد؛ مثل:
1- الحزن، الغم، الغمة، الأسى، والشجن، الترح، الوَجْد، الكآبة، الجزع، الأسف، اللهفة، الحسرة، الجوى، الحرقة، واللوعة.
وليس في اللغة العربية ترادف تامٌّ، إنما المترادفات تشتَرِك في معنى عام، ثم تختصُّ كلُّ مفردة عن الأخرى بزيادة معنى ليس في غيرها، وإن كان هذا المعنى دقيقًا قد لا يُؤَثِّر على المعنى العام.
وهنا تظهر فصاحة وبلاغة اللغة العربية؛ فهي لُغة دقيقة في تعبيراتها، لا تعبِّر بمعنى فضفاض مُتَّسِع الدلالة، ثم هي لا تحتاج إلى كلماتٍ كثيرة لإيصال المعنى؛ بل الكلمة الواحدة تحمل معاني كثيرة.